منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، تبنّى الكيان الصهيوني سياسة واضحة تقوم على تفكيك الدولة السورية وتحويلها إلى كيانات ضعيفة ومجزّأة. هذه الاستراتيجية تهدف إلى إبعاد أي تهديد استراتيجي عن حدود فلسطين المحتلة وقطع التواصل الجغرافي بين أطراف محور المقاومة الممتد من طهران إلى بيروت.
اليوم تعيد “إسرائيل” استخدام الأدوات نفسها في السويداء. فهي تدّعي حماية الدروز، لكن الهدف الحقيقي هو خلق شرخ داخلي عميق بين المجتمع الدرزي والدولة السورية وتحويل الجنوب إلى منطقة رخوة أمنياً وسياسياً يمكن التحكم بها. الغارات الأخيرة على دمشق لم تكن مجرّد ردّ تكتيكي، بل رسالة استراتيجية تهدف إلى تقويض قدرة الدولة السورية على فرض سيادتها الكاملة على أراضيها.
كما يأتي هذا التدخل الإسرائيلي في توقيت حساس؛ فبعد خطوات التقارب العربي – السوري ومحاولات إعادة دمشق إلى العمق العربي، تسعى تل أبيب إلى إفشال أي عملية استقرار داخلي يمكن أن تعيد سوريا إلى دورها الإقليمي. الاحتلال يدرك أن الجنوب السوري هو الخاصرة الأقرب للجولان المحتل، وأي توتر هناك سيخدم أهدافه الأمنية المباشرة.
من جانبها، ترى إيران هذا المخطط بوضوح؛ فقد أكدت طهران مراراً أن الاحتلال الإسرائيلي يستغلّ أي نزاع داخلي سوري كفرصة لتمرير مشروع التقسيم، وهو ما تعتبره طهران خطاً أحمر يمسّ أمن سوريا والمنطقة بأكملها.

على الرغم من التحديات السياسية والاقتصادية التي تواجهها بعد سنوات الحرب، لا تزال دمشق تُظهر مرونة سياسية في إدارة الملفات الداخلية. ففي السويداء، فتحت الحكومة السورية قنوات حوار مباشر مع الزعامات الدرزية، مقدّمة وعوداً بتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية ومعالجة ملفات الفساد المحلي.
تدرك دمشق أن المعالجة الأمنية وحدها لن تكفي، لأن الأزمة في السويداء لها جذور اجتماعية واقتصادية قديمة استغلّتها أطراف خارجية لتأجيج الفتنة. لذلك تسعى الحكومة إلى إعادة دمج المجتمع الدرزي ضمن إطار الدولة، عبر تقديم ضمانات سياسية وأمنية تحافظ على خصوصيته الثقافية والدينية دون السماح بتحويل هذه الخصوصية إلى مشروع انفصالي.
إيران،تدعم هذا التوجّه. فطهران تؤمن بأن الحل المستدام في السويداء يجب أن يكون سورياً – سورياً بعيداً عن أي وصاية أو تدخل خارجي. وقد حذّرت القيادة الإيرانية من أن الانصياع للضغوط الخارجية أو التعويل على الاحتلال الإسرائيلي لن يؤدي إلا إلى مزيد من الفوضى والتقسيم. كما تقدّم إيران خبرتها السياسية والدبلوماسية لدعم دمشق في تجاوز هذه الفتنة بالحوار، لا بالقوة العسكرية وحدها.

مصير الجنوب السوري اليوم يقف عند مفترق طرق حاسم. فإذا نجحت دمشق في احتواء الأزمة في السويداء بسرعة عبر استراتيجية مزدوجة تقوم على الحوار الداخلي وتعزيز الوجود الأمني المنظّم، فإن المشروع الصهيوني سيفشل وتتحوّل السويداء إلى نموذج جديد للتعايش الوطني داخل سوريا الموحّدة.
لكن إذا استمر الاحتلال الإسرائيلي في ضخّ السلاح والدعاية الإعلامية لإشعال التوتر ووجد دعماً إقليمياً أو دولياً لتمويل النزعة الانفصالية، فقد يصبح الجنوب السوري منصة لمخطط أكبر يستهدف ليس فقط تقسيم سوريا، بل أيضاً تهديد الأردن ولبنان وإضعاف محور المقاومة بأكمله.
وهنا يظهر مجدداً الدور الإيراني الحاسم؛ فطهران لن تسمح بتحويل الجنوب السوري إلى منطقة نفوذ صهيوني جديدة، وهي تؤكّد دعمها السياسي لدمشق من أجل إعادة الاستقرار. إيران تعتبر أن وحدة سوريا واستقرارها ليست مجرّد قضية داخلية، بل ركيزة أساسية في معادلة الأمن الإقليمي وفي حماية المقاومة في لبنان وفلسطين من الضغوط الصهيونية.
بالتالي، يبقى الرهان على وعي المجتمع المحلي في السويداء، وعلى قدرة الدولة السورية بدعم حلفائها، خاصة إيران وروسيا، على إفشال هذا المخطط. فالسويداء ليست مجرّد محافظة جنوبية، بل بوابة استراتيجية قد تحدّد مستقبل سوريا بين خيارين: دولة موحّدة قادرة على النهوض من أزمتها، أو ساحة جديدة للفتنة والتقسيم الخارجي.