إيران تقترب من “اليوم صفر المائي” مع تفاقم أزمة المياه وتداعياتها الاجتماعية والاقتصادية
إيران اليوم على أعتاب واحدة من أعمق أزماتها المائية في التاريخ؛ أزمة ناتجة عن تداخل موجات الجفاف المتكررة، والانخفاض الكبير وغير المسبوق في معدلات الأمطار، والتبخر الشديد الناتج عن الاحتباس الحراري العالمي، وقبل كل شيء الإدارة غير المستدامة وغير الذكية للموارد. استمرار هذا المسار قرّب البلاد من حالة الإنذار المعروفة بـ “اليوم صفر”، وهو اليوم الذي قد يصبح فيه الوصول إلى مياه الشرب لمناطق واسعة من السكان صعباً أو حتى مستحيلاً.
هذا التمهيد يمهّد للدخول في تحليل أعمق للأزمة، وأسبابها الهيكلية، وتداعياتها الاجتماعية والاقتصادية.
أبعاد الأزمة
الأزمة المائية الحالية في إيران لها أبعاد متعددة، جميعها تُمارس ضغطاً غير مسبوق على الموارد المحدودة في البلاد بشكل متزامن.
أولاً، الانخفاض الحاد في معدلات الأمطار، حيث أظهرت الإحصاءات الرسمية أن معدلات الهطول في السنة المائية الجارية أقل بنسبة 40% عن المعدل طويل الأجل وحتى أقل من العام الماضي. هذا الانخفاض المستمر جعلها السنة الخامسة على التوالي من الجفاف، مما حرم الموارد المائية من فرصة تجددها الطبيعي.
ثانياً، تراجع مخزون السدود. فقد انخفضت كميات المياه الواردة إلى سدود البلاد بأكثر من 40%، وأصبحت العديد من السدود الاستراتيجية لا تحتوي سوى على أقل من 20% من طاقتها، حتى أن بعضها شارف على الجفاف الكامل.
ثالثاً، هذا الوضع أدى إلى نشوء توتر مائي واسع. حالياً، تعاني نحو 50 مدينة في 24 محافظة إيرانية – بما في ذلك طهران وكرج باعتبارهما مراكز سكانية واقتصادية كثيفة – من قيود حادة في الوصول إلى المياه، مما يشكل تهديداً مباشراً للحياة اليومية لملايين الأشخاص.
رابعاً، موجات الحر غير المسبوقة التي سجلت درجات حرارة تجاوزت 50 درجة مئوية في العديد من المحافظات زادت معدلات التبخر والاستهلاك بشكل كبير. هذا الأمر أجبر الحكومة على فرض عطلات طارئة واتخاذ إجراءات تقنين استهلاك المياه، رغم أن هذه التدابير تظل مؤقتة وقصيرة الأمد.
بشكل عام، هذه العوامل الأربعة مجتمعة خلقت أزمة متعددة الطبقات ومعقدة لا يمكن حلها بمجرد تدابير سطحية، بل تتطلب حلولاً هيكلية ووطنية.
أسباب الأزمة
تُظهر دراسة أزمة المياه في إيران أن هذه الحالة ليست نتيجة موجات الجفاف فقط، بل هي حصيلة تراكم عوامل هيكلية ومناخية وإدارية عبر الزمن جعلتها مشكلة معقدة ومزمنة.
أولاً، للتغيرات المناخية واضطراب أنماط الأمطار دور أساسي. فقد أصبحت مواسم الهطول أقصر وأكثر تذبذباً، ورفع ارتفاع متوسط درجات الحرارة معدلات التبخر بشكل كبير، مما جعل حتى الأمطار المحدودة تفقد فرصة تسربها إلى الموارد الجوفية وأدى إلى عجز مائي دائم.
ثانياً، الإدارة غير المستدامة للموارد فاقمت الأزمة. الاعتماد المفرط على استخراج المياه الجوفية أدى إلى هبوط التربة في مناطق مثل طهران وأصفهان وكرمان وأفقد البلاد قدرتها الطبيعية على تخزين المياه. إضافة إلى ذلك، السياسات الزراعية غير العلمية – مثل زراعة المحاصيل كثيفة الاستهلاك للمياه كالأرز في مناطق فقيرة بالمياه – فرضت ضغطاً مضاعفاً على الموارد المحدودة وأخلت بالتوازن بين الاستهلاك وقدرة الموارد على التجدد.
ثالثاً، النمو السكاني والتركيز الحضري زاد العبء على شبكة إمدادات المياه. اليوم يعيش أكثر من 20 مليون نسمة في طهران وكرج وحدهما؛ هذا التركيز السكاني الهائل مع شبكات توزيع متهالكة وغير فعالة جعل حتى الوصول العادي إلى مياه الشرب أمراً صعباً.
رابعاً وربما الأهم، ضعف الحوكمة وغياب التخطيط طويل الأمد. إدارة الموارد المائية في إيران تفتقر إلى نهج وطني موحّد، والتنافس بين المحافظات على الموارد المائية وغياب التنسيق بين القطاعات المختلفة وانعدام الحلول المستدامة في الزراعة والصناعة فاقم الأزمة بشكل تصاعدي. وبعبارة أخرى، ليس فقط التغير المناخي، بل أيضاً سوء الإدارة وقصر النظر كانا عاملاً أساسياً في تعميق الأزمة.
التداعيات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية
أزمة المياه في إيران ليست مجرد مشكلة بيئية، بل لها آثار واسعة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية وحتى البنية التحتية وتهدد بشكل مباشر مستقبل التنمية في البلاد.
اجتماعياً، أدى تراجع الوصول إلى مياه الشرب وتدمير مصادر العيش إلى موجة من الاستياء الشعبي. خلت العديد من القرى والمدن الصغيرة بسبب موجات الجفاف المتتالية، والهجرات القسرية إلى أطراف المدن الكبرى خلقت ضغوطاً اجتماعية جديدة. هذا الوضع قد يكون أرضية للتوترات الإقليمية وحتى النزاعات المحلية على حصص المياه.
اقتصادياً، أدى تراجع الإنتاج الزراعي وضياع الأراضي القابلة للزراعة إلى تهديد الأمن الغذائي وارتفاع أسعار المواد الغذائية. كما تواجه الصناعات المعتمدة على المياه انخفاضاً في الإنتاجية وارتفاعاً في تكاليف تأمين ومعالجة المياه، مما يعطل سلاسل الإنتاج وسوق العمل.
بيئياً، الآثار أكثر تدميراً. جفاف البحيرات المهمة، مثل بحيرة غاوخوني في أصفهان، أدى إلى تدمير واسع للنظم البيئية المحلية وانخفاض التنوع البيولوجي. إلى جانب ذلك، أدى انتشار العواصف الغبارية وتدهور التربة إلى تراجع جودة الحياة وتفاقم الأزمات الصحية العامة.
وأخيراً على مستوى البنية التحتية، أدى الإفراط في استخراج المياه الجوفية إلى هبوط الأرض في مناطق عديدة بما فيها طهران. هذا الهبوط أحدث شقوقاً خطيرة في النسيج الحضري وهدد البنية التحتية الحيوية مثل شبكات المترو والطرق والمباني الرئيسية.
وهكذا، لا تقتصر أزمة المياه على نقص مورد أساسي للحياة، بل امتد تأثيرها ليشمل جميع أركان الحياة الاجتماعية والاقتصادية، مما جعل مستقبل إيران المستدام في مواجهة تحدٍ وجودي.
الاستجابات والسياسات الحالية
اتخذت الحكومة والجهات المعنية بإدارة الموارد المائية في السنوات الأخيرة إجراءات لمواجهة الأزمة، لكنها كانت في الغالب مؤقتة وقصيرة الأمد ولم تؤد إلى تخفيف مستدام للأزمة.
من هذه الردود، العطلات الطارئة وفرض قيود على الاستهلاك في بعض المحافظات بما في ذلك طهران، بهدف خفض استهلاك المياه والكهرباء في ذروة موجات الحر الشديدة. كما أُطلقت حملات لترشيد الاستهلاك دعت المواطنين إلى خفض استهلاكهم بنسبة 20%.
من جهة أخرى، وُضعت مشاريع كبرى لنقل المياه مثل نقلها من الخليج العربي وبحر عمان إلى المناطق المركزية، رغم أن هذه المشاريع يمكن أن تلبي جزءاً من الاحتياجات، إلا أنها مكلفة للغاية ومحدودة وغالباً ما تكون مصحوبة بتداعيات بيئية جديدة.
بشكل عام، تعتبر هذه التدابير مجرد مسكنات مؤقتة. وبدون إصلاحات هيكلية في إدارة الموارد، فإن حتى التوسع في تنفيذ هذه المشاريع لن يكون قادراً على حل الأزمة من جذورها.
الحلول المقترحة (نظرة استراتيجية)
لتجاوز الأزمة الحالية والتحرك نحو إدارة مستدامة للمياه، هناك مجموعة من الإجراءات طويلة الأمد والهيكلية الضرورية:
-
إدارة الطلب بدلاً من التركيز فقط على زيادة العرض
-
تعديل أنماط الاستهلاك المنزلي والصناعي من خلال تسعير ذكي وآليات رقابية
-
تغيير أنماط الزراعة نحو محاصيل أقل استهلاكاً للمياه وتحسين كفاءة الري
-
إعادة تدوير ومعالجة المياه
-
استخدام تقنيات معالجة وإعادة تدوير مياه الصرف الصحي والصناعي
-
استغلال المياه المعالجة للاستخدامات غير الصالحة للشرب بدلاً من الاعتماد على الموارد الطبيعية
-
تعزيز حوكمة الأحواض المائية
-
إنشاء مؤسسات وطنية موحّدة لإدارة ومراقبة الموارد المائية
-
منع التنافس بين المحافظات واعتماد سياسات وطنية قائمة على المصالح طويلة الأمد
-
الاستثمار في التقنيات الحديثة
-
تطوير تقنيات تحلية مياه البحر
-
إدارة ذكية لشبكات توزيع المياه واستخدام بيانات الأرصاد المتقدمة للتنبؤ بالأزمات
-
التوعية المجتمعية
-
بدون مشاركة المجتمع، لن تنجح أي سياسة. يمكن للتعليم والتوعية أن يقللا من الاستهلاك غير الضروري ويعززا المسؤولية الجماعية.
وخلاصة القول…
أزمة المياه في إيران هي نتاج متزامن للتغيرات المناخية والضغوط البشرية وضعف الحوكمة. وبينما يشكل الاحتباس الحراري وتغير أنماط الأمطار جزءاً من المشكلة، فإن تجارب الدول ذات المناخ المشابه أثبتت أن الإدارة الذكية والإصلاحات الهيكلية والاستثمار في التقنيات الحديثة يمكن أن يخفف من آثار الأزمة إلى حد كبير.
ومع ذلك، فإن غياب خطة وطنية لإنقاذ المياه قد يعرض البلاد ليس فقط للعطش، بل أيضاً لعدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي الواسع. والآن هو وقت اتخاذ قرارات صعبة ولكنها حيوية:
هل ستكتفي السلطات بإدارة الأزمة بحلول مؤقتة ومسكنات قصيرة الأمد، أم ستتجه نحو إصلاحات عميقة ومكلفة ولكنها ضرورية لضمان مستقبل مستدام للأجيال القادمة؟