الأستاذ شهريار؛ شاعر القلوب والصوت الخالد للشعر الفارسي المعاصر
وأفادت وكالة برنا للأنباء، ارتبط اسم شهريار بالشعر وموسيقى الكلمات. كان شاعراً يحافظ على التراث ويتقدّم في مسار التجديد في آن واحد. من جهة، غزلياته العاطفية تذكّر بعصر حافظ وسعدي، ومن جهة أخرى، تجاربه في الشعر الحديث تكشف عن روح تبحث دائماً عن الجديد. كان شهريار شاعر الناس؛ تجري قصائده على ألسنة العامة كما تحتل مكانة رفيعة في المحافل الأدبية. لقد كان شهريار أكثر من شاعر فردي؛ كان "صوتاً جماعياً" للشعب الإيراني. قصائده كانت تواسي في الشدائد وتشارك في الأفراح. ولهذا فإن تكريمه ليس تكريماً لشاعر واحد، بل احترام للتاريخ والثقافة وهوية الأمة الإيرانية.
حياته وبداياته الشعرية
وُلد السيد محمد حسين بهجت تبريزي، المشهور بشهريار، سنة ١٢٨٥ هـ.ش في تبريز. ومنذ طفولته أبدى شغفاً بالشعر والأدب، وظهرت موهبته في نظم الشعر باكراً. انتقل في شبابه إلى طهران وبدأ دراسة الطب، لكن شغفه بالشعر والفن منعه من الاستمرار في الطب وقاده إلى عالم الأدب. وفي مجموعاته الأولى قدّم نفسه شاعراً متمكناً بغزلياته الرقيقة، وسرعان ما اشتهر بين أهل الأدب.
لكن حياة شهريار لم تقتصر على الساحة الأدبية فقط. فقد مرّ بتقلبات كثيرة؛ من قصة حب فاشلة ألهمت العديد من غزلياته، إلى أيام صعبة دفعته إلى العزلة. هذه التجارب المريرة والحلوة منحت شعره صدقاً وحرارة نادرة في زمنه. لم يكن شهريار يلعب بالكلمات، بل كان يسكب قلبه فيها، وهذا هو سر خلود شعره.
شهريار والغزل الفارسي
يُعد شهريار من أبرز الغزليين المعاصرين. غزلياته امتزجت فيها الموضوعات العاطفية والدينية والاجتماعية بلغة سلسة. وأشهر غزله "علي أيها الهمام الرحمة" في مدح الإمام علي (ع) الذي أصبح من الخالدات في الأدب المعاصر. حتى في غزلياته العاطفية استطاع أن ينقل لغة الناس اليومية إلى الشعر، وهذا ما جعله محبوباً على نطاق واسع.
غزلياته امتداد للتراث وفي الوقت نفسه تجديد له. فقد حافظ على الموسيقى الداخلية للغزل وقربه من لغة العصر. في شعره نجد أثر التجارب الشخصية والهموم الاجتماعية والمعتقدات الدينية. لقد أخرج الغزل من الكتب وأعاده إلى ألسنة الناس. كثير من أبياته باتت تُتداول كمأثورات، وهذا دليل على مكانته الشعبية الواسعة.
شهريار والشعر التركي
من أبرز خصائص شهريار نظمه للشعر بالتركية الأذرية. ومنظومته الشهيرة "حيدر بابايه سلام" لم تلقَ رواجاً بين الأذريين فقط، بل حظيت باستقبال كبير في إيران والعال التركي. هذه القصيدة التي تستحضر ذكريات الطفولة والوطن الأم تجسد العلاقة الوجدانية العميقة بين الإنسان وجذوره.
أثبت شهريار بـ"حيدر بابا" كيف يمكن للغة محلية أن تخلق عملاً عالمياً. صوّر فيها ببساطة طفولته وعادات الريف وطبيعة أذربيجان، فكانت قصيدته وثيقة ثقافية إلى جانب قيمتها الأدبية. وقد برهن بهذا العمل أن الفارسية والتركية ليستا خصمين، بل يمكن أن تتكاملان لتعزيز الوحدة الوطنية.
مكانة شهريار في الشعر المعاصر
عاش شهريار في مرحلة شهد فيها الشعر الفارسي تحولات كبرى. مع ظهور نيما يوشيج، تعززت حركة الشعر الحديث وسلك كثير من الشعراء طرقاً جديدة. أما شهريار فحافظ على الغزل وفي الوقت نفسه طرق باب الشعر الحديث. بعض نصوصه في هذا المجال تُظهر مرونته وروحه المتطلعة للتجديد. وهكذا جمع بين التراث والحداثة وتأثر بالتيارين معاً. ولم يتوقف عند حدود الشعر، بل كان مثقفاً أيضاً. قاوم الظلم بقصائده، وتحدث عن العدالة، وفي الوقت نفسه أنشد للعشق والجمال. أعماله تدل على أنه شاعر شامل؛ ملمّ بالتاريخ والتراث ويستجيب في الوقت ذاته لمتطلبات عصره.
تكريم شهريار؛ تكريم للشعر والأدب الفارسي
إن ٢٧ شهریور (١٨ سبتمبر)، ذكرى رحيل الأستاذ شهريار، أُطلق بمقترح من المجلس الأعلى للثورة الثقافية يوماً وطنياً للشعر والأدب الفارسي. وهذا الاختيار يعكس مكانته كآخر قمة شامخة للشعر الكلاسيكي الفارسي في عصرنا. تكريمه في الحقيقة تكريم لجميع الشعراء والأدباء الذين أبقوا الفارسية حية ومتجددة.
هذا الإعلان يؤكد أن الشعر ما زال يحتل مكانة خاصة في حياة الإيرانيين. ففي هذا اليوم تُقام أمسيات أدبية وفعاليات ثقافية وندوات علمية تخليداً لذكراه. وهذه المناسبات فرصة لتعرّف الأجيال الجديدة عليه ولإعادة الشعر والأدب الفارسيين إلى صدارة الاهتمام. وبالواقع، فإن تكريم شهريار هو تكريم للهوية الإيرانية ذاتها.
من خلود الكلمات إلى خلود الهوية
يمكن وصف الأستاذ شهريار بأنه "شاعر القلوب". فقد كان شاعراً خرج من قلب الناس وعاد إلى قلوبهم. شعره كان رواية للعشق، وتسبيحاً للإيمان، وصدىً لآلام المجتمع. أثبت أن الشعر ما زال قادراً على مخاطبة الروح والإلهام. إن تكريمه تذكير برسالة الشعر والأدب في حياة الإيرانيين؛ رسالة لا تزال قائمة وستبقى.
شهريار لم يكن مجرد شاعر كبير، بل كان معلماً لكل الأجيال. فقد بيّن أن الشعر جسر بين الماضي والمستقبل؛ يبدأ من التراث العريق ويتجه نحو آفاق جديدة. وإذا كانت الفارسية اليوم حيّة ومتجددة، فإن أحد أسباب ذلك وجود شعراء من طراز شهريار. فذكراه ذكرى الشعر وذكرى إيران.