بمناسبة ذكرى مولد السيدة زينب (ع) ويوم الممرّض؛

يوم الممرّض؛ حكاية الصبر، والعطاء، والالتزام الإنساني

|
۲۰۲۵/۱۰/۲۷
|
۱۰:۱۰:۰۲
| رمز الخبر: ۸۴۲
يوم الممرّض؛ حكاية الصبر، والعطاء، والالتزام الإنساني
يوافق الخامس من جمادى الأولى في التقويم الهجري، ذكرى لا تتعلّق بمولد شخصيةٍ واحدة فحسب، بل بمعنى أوسع: ارتباط الإيمان بالإنسانية. إنّ اليوم الذي يحمل اسم السيدة زينب (ع) والممرّضين ليس مجرد مناسبةٍ دينية، بل هو رمزٌ لتكريم الروح الإنسانية؛ تلك الروح التي تختار أن تخدم بدلًا من أن تستسلم. في هذا اليوم نتذكّر أشخاصًا يزرعون الطمأنينة في الألم، ويحوّلون الإرهاق إلى أمل.

وكالة برنا للأنباء، ليست بعض الأيام في التقويم مجرّد تواريخ، بل معانٍ خالدة. إنّ ذكرى مولد السيدة زينب (ع) ويوم الممرّض من تلك الأيام التي تتجاوز الزمان والمكان. فهما مناسبتان تختلفان في الشكل، لكنهما تتّحدان في الجوهر؛ إذ تُجسّدان قيمة الإنسان. في عالمٍ يطغى عليه التسارع والمنافسة، يأتي هذا اليوم ليذكّرنا بالرحمة، والإيثار، والصبر كقيمٍ ضرورية لبقاء الروح حيّة.

تُعرف السيدة زينب في الذاكرة الإسلامية رمزًا للصبر والوعي، لكنها في المعنى الأعمق تمثّل روحًا قادرة على صناعة المعنى من قلب المعاناة. والممرّضون اليوم يجسّدون هذه الروح عينها، فهم يقفون في خطّ المواجهة الأوّل للحياة، حيث الألم والخوف حاضران، لكنهم يختارون الأمل. هذا التلاقي بين المناسبة الدينية والمهنية ليس مصادفة، بل هو استمرارٌ لفكرةٍ واحدة: أن الإنسان حيث يعمل بحبّ، يقدّس الحياة.

إنها مناسبة للتأمل في القيم التي تُنسى أحيانًا وسط صخب الحياة اليومية: الرحمة، والمسؤولية، والوجود من أجل الآخر. والمجتمع الذي يصون هذه القيم، هو المجتمع الذي يظلّ حيًّا مهما تغيّرت الظروف.

 يوم الممرّض؛ الوجه الإنساني للخدمة والعطاء

التمريض مهنةٌ ترتبط في ظاهرها بالعلم الطبي، لكنها في حقيقتها وثيقة الصلة بروح الإنسان. فالممرّض ليس حارسًا لصحة الجسد فحسب، بل هو رفيق الألم وشاهد اللحظات الهشّة في حياة الناس. في تلك اللحظات التي يكون فيها المريض ضعيفًا وخائفًا، يصبح اللمس، والنظرة، والابتسامة علاجًا يوازي الدواء.

يأتي يوم الممرّض ليمنحنا فرصة لإعادة النظر في هذه المهنة الصامتة، التي تمارس عظمتها بلا ضجيج. ففي عالمٍ ترتفع فيه أصوات كثيرة، يعمل الممرّضون في هدوءٍ، يسهرون حين ينام الآخرون، ويبتسمون رغم التعب. إنهم يقدّمون من ذاتهم كلّ يوم شيئًا من الراحة للآخرين.

هذا اليوم ليس تكريمًا لوظيفة، بل احتفاءٌ برؤيةٍ إنسانية ترى في الإنسان مركز كلّ شيء. فالممرّض، في عصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، يذكّرنا بما لا يمكن لأي آلةٍ أن تفعله: الحضور الإنساني. إنه يذكّرنا أن العلاج ليس علمًا فحسب، بل هو فنّ التعاطف.

وفي أوقات الأزمات الكبرى، مثل جائحة كورونا، تبيّن المعنى العميق لهذه الكلمة. فقد وقف الممرّضون في الصفوف الأمامية للإنسانية، وكانوا رمزًا للأمل في وجه الخوف. واليوم، في يومهم العالمي، يقف المجتمع تقديرًا لأولئك الذين يصنعون الحياة كلّ يوم، بصمتٍ وإصرار.

معنى الصبر اليوم؛ من التراث إلى الإنسان المعاصر

ارتبطت كلمة "الصبر" في ثقافتنا طويلًا بالدين، لكنها في جوهرها تجربة إنسانية عميقة. الصبر هو النضج الداخلي، هو القدرة على البقاء عندما يختار الآخرون الرحيل. إنه ليس سكونًا، بل وعيٌ بالاستمرار.

في زمنٍ يطغى فيه الإيقاع السريع والقلق، أصبح الصبر وجهًا آخر للشجاعة. أن تبتسم وسط التعب، أن تواصل رغم الخوف، أن تختار الرحمة في عالمٍ يميل إلى القسوة. الممرّضون هم تجسيد هذا المعنى في عصرنا. كلّ يوم، يقفون في مواجهة الألم، ويختارون الطمأنينة بدل الجزع.

السيدة زينب (ع) كانت، في الثقافة العربية والإسلامية، رمزًا لهذا الصبر الواعي — الصبر الذي ينبع من فهمٍ ومعرفة لا من خضوعٍ واستسلام. وهنا يتجلّى الامتداد القيمي بين الماضي والحاضر: فالقيم الأخلاقية لا تفقد معناها بمرور الزمن، بل تجد وجوهًا جديدة تعبّر عنها.

في عالمٍ يزداد فردانية، يذكّرنا يوم الممرّض بأنّ المعنى الحقيقي للحياة لا يكون إلا "مع الآخرين". فالصبر، والتضحية، والسكينة ليست كلماتٍ أخلاقية فحسب، بل هي جوهر التجربة الإنسانية ذاتها.

الإلهام من الماضي للحياة في الحاضر

إنّ مناسباتٍ كهذا اليوم ليست مجرّد تذكيرٍ بالتاريخ، بل نداءٌ للوعي بالحاضر. ففي عالمٍ تُضعف فيه التكنولوجيا الروابط الإنسانية، يأتي هذا اليوم ليعيدنا إلى قيمٍ ينبغي أن تبقى نابضة في القلب.

لقد وقفت السيدة زينب (ع) في وجه العاصفة لتقول إنّ الألم يمكن أن يكون بداية الوعي. والممرّضون اليوم، في المستشفيات والمراكز الصحية، يُعيدون ترجمة هذا الدرس بالفعل لا بالكلام. إنهم يذكّروننا بأن الإنسان قادرٌ على صناعة المعنى من خلال عمله، متى ما كان مدفوعًا بالحبّ.

هذه المناسبة أيضًا فرصة للمجتمع كي يرى أولئك الذين يمرّون بجانبه بصمتٍ كلّ يوم. أولئك الذين لا يظهرون في الشاشات، لكنّهم يكتبون قصص الرحمة بأيديهم. إنهم أبطال الحياة الذين لا ينتظرون تصفيقًا، بل يؤمنون بأن العطاء هو شكلٌ من أشكال الوجود.

الإلهام من الماضي لا يعني العودة إلى الوراء، بل السير قُدمًا على خُطى القيم التي تمنح للحياة معناها. وفي زمنٍ يقدّس السرعة على حساب الإحساس، يصبح استحضار مثل هذه النماذج ضرورة للحفاظ على إنسانيتنا.

الإنسانية؛ المعنى المشترك لكلّ الأزمنة

يذكّرنا يوم الممرّض، في جوهره، بأنّ الإنسانية هي اللغة الوحيدة التي يفهمها الجميع. فالمجتمعات لا تُقاس بتقدّمها التقني بقدر ما تُقاس بقدرتها على العطف والتراحم. والممرّضون، في كلّ مكان وزمان، هم حماة هذه الروح الإنسانية.

في عالمٍ تملؤه الصراعات وانعدام الثقة، يصبح حضورهم أكثر أهمية من أي وقتٍ مضى. يوم الممرّض ليس يوم تكريمٍ لفئةٍ مهنية فحسب، بل هو تذكيرٌ جماعيّ لنا جميعًا بأنّ "الإنسانية فعل"، وأنّ أجمل ما يمكن أن يقدّمه المرء، هو أن يكون إلى جانب الآخر.

إنها مناسبة للتأمل في أبسط الحقائق وأعمقها: لا شيء أجمل من أن تساعد إنسانًا آخر. وربما لهذا السبب، يبقى الممرّض جميلًا حتى في تعبه؛ لأنه يفهم جوهر الحياة أكثر من غيره.

يوم الممرّض؛ يوم الإنسانية

هذا اليوم ليس احتفالًا بمهنةٍ فحسب، بل هو احتفالٌ بالإنسان ذاته. ففي عالمٍ يفقد أحيانًا معناه، يذكّرنا الممرّضون أن الرحمة ما زالت حيّة. دعونا في هذا اليوم لا نكتفي بالتهنئة، بل نتأمل قيمة وجود هؤلاء الأشخاص الذين يملأون الحياة لطفًا دون أن يطلبوا شيئًا في المقابل. كلّ ابتسامةٍ يمنحونها، هي رسالة صامتة تقول: ما زال الخير ممكنًا.

برنا العربی تتقدّم بأسمى آيات التقدير والتهنئة بمناسبة ذكرى مولد السيدة زينب (ع) ويوم الممرّض، إلى جميع العاملين في قطاع الرعاية الصحية، وكلّ من يجعل العالم مكانًا أكثر إنسانية ورحمة.

رأيك