قصور القاجار في طهران؛ مرايا من التاريخ، عمارة وفخامة شرقية
وأفادت وكالة برنا للأنباء، في عهد القاجار، خصوصًا في نصفه الأخير، ظهرت مبانٍ ليست للوظائف الإدارية أو العسكرية فحسب، بل كأظهار للفخامة السلطانية، واستقبال السفراء الأجانب، وإبداء الثراء الداخلي وأسلوب الحياة الملكي. تأثّر القاجاريون بالفن الإيراني الأصيل، وبالهندسة المعمارية من عصر زند، ثم بدأت تظهر التأثيرات الأوروبية تدريجيًا، فشُيّدت قصور تجمع بين التقليد والحداثة.
طهران، التي اختارها آقا محمد خان القاجار عاصمة، تحوّلت تدريجيًا إلى مقر للقصور الملكية والحدائق السلطانية. بعض هذه القصور لا تزال صامدة، تشهد على أيام مجدٍ مضى، مرآة لعظمةٍ كانت تسكن بين الجدران والأروقة. هذه القصور ليست مجرّد مبانٍ؛ إنها مسارُ الهوية التاريخية والثقافية الإيرانية، حيث يُرى تاريخُ السياسة والفنّ في الزخارف والفلكلور والبناء.
قصر جولستان | قلب الدولة القاجارية
قصر جولستان، أقدم وربما أشهر القصور الملكية في طهران، يقع في ميدان پانزدہ خرداد. كان في الأصل جزءًا من حصن المدينة الملكي، ومع مرور الزمن، تشكّل كمجموعة من الأجنحة، الباحات، والأطواد. التصميم المعماري للجولستان مزيجٌ من الفسيفساء الإيرانية، والمقرنِصات التقليدية، والزجاج الملون، والتأثيرات الأوروبية التي دخلت على عهد ناصري.
في هذا القصر، استقبل ناصرالدين شاه الدهشة في عيون الزوار، وهنا وُقّع فرمان الدستور، وهنا التُقطت آخر صور الملك أحمد شاه. الجولستان اليوم ليس فقط متحفًا تاريخيًا، بل شاهداً مسجّلًا على عبور إيران من مملكة مطلقة إلى عصر التحديات والتغيير. كما أن تسجيله كموقع تراث عالمي يعكس أهميته الفخرية والثقافية. كل زاوية فيه تروي قصة تفاخر وجمال، وجسر بين الماضي والحاضر.

سعدآباد | فخامة بين الأجـــبال وظلال الطبيعة
في سفح جبال ألبرز، وبين أشجارٍ عتيقة، تقع مجموعة سعدآباد الثقافية–التاريخية، كانت مقصداً صيفيًا للملوك القاجاريين ثمّ استمرّت خلال فترة البهلوي. رغم أن معظم القصور في سعدآباد هي من الحقبة البهلوي، فإنّ جذور الملكية هناك تمتد إلى آخر قياصرة القاجار، خصوصًا في عهد أحمد شاه.
حدائقها الواسعة، والنوافذ الكبيرة، والأسقف المطلية باللون الأخضر والفيروزي، والمجالس الداخلية المزيّنة برسوم ونقشٍ يدوي، كلها تشكّل لوحة حيّة من تجلّيات الفخامة الملكية. زيارةُ سعدآباد تُتيح للزائر لحظة هدوء وسط الطبيعة، حيث تختفي صخب المدينة خلف غابات وأزقة مظلّلة. كذلك المتاحف المنتشرة هناك تكشفُ عن حياة الملوك، عيشهم اليومي، والضيافة التي كانت تُقدّم في أبهى صورها.

نياوران | التقاءُ التّقليد والحداثة
مجمّع نياوران الثقافي–التاريخي، الذي بدأ كبساتينٍ صيفية للقاجاريين، تحوّل إلى رمزٍ للتطوّر المعماري في عهد البهلوي، مع ذلك، أثَر القاجار لا يزال حاضرًا. قصر صاحبقرانيه، الذي أمر به ناصرالدين شاه، تحفةٌ تجمع بين الفكرة التقليدية في التصميم والخشب والزجاج الملون وبين التفاصيل الجديدة في البناء.
في نياوران، تُرى المساحات الداخلية التي تُنظّم بدقة بين صالات الاستقبال والمكتبة الملكية، والنوافذ الكبيرة التي تُطل على الحدائق، والأسقف المزخرفة التي تُضيءها أنوار الشمس. تُظهِرُ العمارة هناك رغبة في الربط بين فخامة القصور القديمة والأسلوب المعماري المعاصر، حيث يُستخدم الحجر والطوب الداخلي مع عناصر حديثة مثل الزجاج والمعدن. هي رحلة زمانية تبين كيف يمكن للتاريخ أن يعيش مع الحاضر بلا أن يفقد بريقه.

عمارة مسعودية | السياسة في ظلال الترف
تقع عمارة مسعودية في ميدان بهارستان، وتعدّ من أجمل نماذج العمارة القاجارية الواقعة في قلب طهران. بناها ظلّ السلطان، ابن ناصرالدين شاه، وكانت لسنوات مقرًا للتجمعات السياسية والثقافية، ومركزًا لفكرٍ مشروطي طالما حاول إصلاح البلاد. الزخارف الملونة، النوافذ الطويلة، الممرات المفتوحة التي تتواصل مع الباحة، كلها ميزات توحي بأن هذا البيت كان أكثر من مسكن؛ كان منصة للتفكير والهوية.
في الداخل، يُلاحظ التوازن بين الداخل والخارج، بين مساحة الظل وأشعة الشمس التي تدخل عبر الشرفات والأبواب المزخرفة. أما الجلسات التي عقدت فيه فكانت تجمع بين مثقفين وسياسيّين، حيث كان العقل والصوت يعلنان الرغبة في التغيير. تصميمه يُظهر أن القاجار لم يكونوا مجرد حكّام؛ بل كانوا راعٍ لثقافةٍ تواجه الحداثة وتتفاعل معها.

بيت مشير الدوله | حياة الفنّ والدبلوماسية القاجارية
بيت مشير الدوله في شارع لالهزار طهران يُعدّ أحد المنازل الأثرية للمسؤولين البارزين في عصر القاجار، ويعكس بحوته ولونه تفاصيل حياة النخبة. القاعات العالية، الزجاج الملون، السقوف المزخرفة، والمرايا التي تعكس ضوء الشمس، كلها تشكّل خلفيةً بصرية مبهرة.
تقسم البيت إلى دوائر داخلية وخارجية، بودائعٍ وأجنحةٍ تُمكّن من الخصوصية، وتُعبّر عن النظام الاجتماعي والأخلاقية في تلك الحقبة. كانت الاجتماعات الأدبية والفكرية تُعقد فيه، كما استُخدم كموقع للقرارات والتفاوضات السياسية. بيت مشير الدوله ليس مجرّد منزل؛ إنه نصّ حيّ من الحياة الفاخرة، الفن، والسلطة.

بيت وثوق الدوله | الدبلوماسية في بيت هادئ
يقع بيت وثوق الدوله بالقرب من شارع فردوسي، وقد شهد توقيع اتفاقياتٍ سياسية بارزة، أهمها اتفاقية 1919 مع بريطانيا. رغم أن الشكل الخارجي قد يبدو بسيطًا، إلا أن تنظيمه الداخلي، الفناءَ المركزي، الإيوان المحيط، والزخارف الدقيقة تُظهر اهتمامًا بالتفاصيل التي تجمع بين الراحة والمهابة.
كان وثوق الدوله واحدًا من السياسيين الذين رأوا أن إيران يجب أن تلعب دورًا في السياسة الدولية بجدّية، ومنزلُه كان منصة لهذا الطموح. الزائر اليوم يشعر بأن الصمت في الممرات، ظلّ الأعمدة، وألوان البلاط تنقل رسالة عن قوة النقاش السياسي، عن الحضور الملحوظ رغم التغيير. هذا البيت، رغم مرور الزمن عليه، ما زال يحتفظ بجوٍ من الأصالة والتاريخ.

دعوة من التاريخ
قصور وبيوت القاجار في طهران ليست مجرد معالم سياحية؛ هي بوابات لقراءة حياة ملوك، وساسة، ومفكرين. في هذه الأروقة والمرايا والأفنية، تنبض عبق الماضي، تنعكس فيه صور التاريخ، وتُناقش فيه قضايا السلطة والجمال والفنّ. ولعلّ في طهران قصوراً ومنازل تاريخية أخرى من عهد القاجار، تستحق الزيارة والاكتشاف؛ مثل عمارة الأمير نظام، وبيت اعتماد السلطنه، ودار ظهیر الإسلام، وبيت وزیر مشیر الملك، وعمارة ناصر الملك... وكلٌّ منها يحكي فصلاً آخر من روايةٍ ملكيةٍ طُويت صفحتها، لكنّ ظلالها لا تزال حيّة بين الجدران.
تتقدّم "برنا عربی" بجزيل الدعوة لجميع المتابعين العرب لزيارة طهران، لاكتشاف هذه الكنوز التاريخية، ولمشاهدة العاصمة من منظور الملوك؛ حيث لا يزال الماضي يتنفس في المرايا والحدائق والصالات.