بداية أسبوع الدفاع المقدّس؛ رواية خالدة عن تضحية وصمود الشعب الإيراني
وأفادت وكالة برنا للأنباء، في ٣١ شهریور (٢٢ سبتمبر) ١٩٨٠، شنّ النظام البعثي العراقي، بدعم واسع من القوى العالمية والإقليمية، هجوماً شاملاً على الحدود الغربية والجنوبية لإيران. كان العدو يظن أنّه سيتمكّن في غضون أيام قليلة من إسقاط الثورة الفتية وإجبار طهران على الاستسلام. لكن اليوم نفسه تحوّل إلى نقطة فاصلة في التاريخ؛ إذ أثبت الشعب الإيراني أنّه بالإيمان والوحدة والصمود قادر على تغيير مسار الأحداث. الحرب التي تصوّروا أنّها قصيرة الأمد امتدت لتصبح أطول حرب في القرن العشرين، وسُجّلت في ذاكرة الإيرانيين باسم «الدفاع المقدّس».
وفي هذا الأسبوع من كل عام، يحيي الإيرانيون عبر مراسم متنوّعة ذكرى الشهداء والمقاتلين والمضحّين. إن بداية أسبوع الدفاع المقدّس تعني بداية إعادة قراءة القيم التي وُلدت في أقسى الظروف وبقيت حتى اليوم رأس مال عظيماً لهوية وثقافة إيران.
الدفاع المقدّس؛ مدرسة للتضحية والصمود
لم تكن ثمانية أعوام من الدفاع المقدّس حرباً عسكرية فحسب، بل كانت جامعة كبرى للشعب الإيراني. في هذه المدرسة، تعلّمت الأجيال الشابة المعنى الحقيقي للتضحية والشهادة والصمود، وتعلّمت أنّ الإيمان يمكن أن يكون بديلاً عن أحدث الأسلحة. ففي وقت كانت إيران ترزح تحت وطأة الحصار ونقص الإمكانيات، حقّق المقاتلون معجزات بتوكّلهم على الله وروحهم الجهادية.
لقد أثبت هذا الاختبار التاريخي أنّ المقاومة أمام الظلم ليست شعاراً بل حقيقة ممكنة. لقد رأى العالم بأمّ عينه كيف استطاع شعب أعزل، بلا اعتماد على القوى الكبرى، أن يصمد أمام عدو مدجّج بالسلاح. هذا النموذج أصبح فيما بعد مصدر إلهام للعديد من الحركات التحرّرية في المنطقة. لقد كان الدفاع المقدّس مدرسةً جسّدت قيم الثورة الإسلامية وأنشأت أجيالاً مشبعة بروح العزّة والحرية.
دور الشعب في الجبهة وخلف الجبهة
أحد أبرز أبعاد الدفاع المقدّس كان المشاركة الشاملة للشعب. فبينما كان المقاتلون على خطوط المواجهة، كانت الجبهة الخلفية ساحة لحضور جميع الفئات. النساء في البيوت والورش كنّ يخطن الملابس ويجهزن المساعدات. التلاميذ كانوا يتبرّعون بمدّخراتهم الصغيرة. الفلاحون يرسلون محاصيلهم إلى المقاتلين، والعمّال يعملون ساعات إضافية لدعم المقاومة.
هذا الحضور الشعبي حوّل الدفاع المقدّس إلى حركة اجتماعية واسعة. لم تخلُ أسرة في إيران من مشاركة أحد أفرادها في الجبهة أو في الدعم اللوجستي. هذه الوحدة الشعبية هي التي أفشلت خطط العدو. لقد أثبت الدفاع المقدّس أنّ الشعب الإيراني حين يتعلّق الأمر باستقلاله وعزّته، يقف صفّاً واحداً ويعمل بصوت واحد.
الأبعاد الروحية للدفاع المقدّس
ما ميّز الحرب المفروضة على إيران عن سائر الحروب كان بعدها الروحي. فإطلاق وصف «المقدّس» على هذا الدفاع لم يكن عبثاً. لقد كان المقاتلون يرون ساحة القتال محراباً للعبادة. صلاة الجماعة على خطوط المواجهة، دعاء كميل وزيارة عاشوراء في ليالي الجبهات، وتشييع الشهداء بأهازيج عاشورائية، كلّها شواهد على أنّ الحرب بالنسبة للشعب الإيراني لم تكن مجرد نزاع سياسي أو عسكري، بل جهاداً في سبيل الله.
هذه الروحانية هي التي دفعت المقاتلين إلى تضحيات عظيمة. فالمراهقون ذهبوا بشوق إلى الشهادة، والجرحى واصلوا حياتهم بأجساد مثخنة بالجراح ولكن بأرواح سامية. إن المقابر المضيئة للشهداء، والوصايا المؤثرة، وذكريات المضحّين، لا تزال اليوم مصدراً لإلهام الأجيال الجديدة، وتبقي معنى «التضحية» حياً في المجتمع.
مكاسب الدفاع المقدّس
على الرغم من أنّ الحرب فرضت أعباء ثقيلة على إيران، إلا أنّ مكاسبها المعنوية والثقافية وحتى العلمية لا تُنكر. في تلك السنوات، ارتفعت روح الاعتماد على الذات والثقة بالنفس إلى أعلى المستويات. أدركت إيران أنّها قادرة على الوقوف مستقلة بلا حاجة إلى القوى الأجنبية. في تلك الفترة نمت الصناعات الدفاعية ووضعت الأسس للقوة التي تتمتع بها البلاد اليوم.
وعلى الصعيد الثقافي، خلّف الدفاع المقدّس كنزاً لا ينضب من الأدب والفن والذكريات. فقد أُنتجت آلاف الكتب والأفلام والقصائد والشهادات، وتُقام سنوياً مهرجانات وندوات لإحيائها. هذه الثروة الروحية والثقافية صاغت هوية إيران المعاصرة، وقدّمت للعالم نموذجاً في المقاومة والحرية. بل إنّ الدفاع المقدّس أصبح رسالة إلى شعوب مظلومة أخرى تلهمها للصمود.
من دماء الأمس إلى أمان اليوم
إن بداية أسبوع الدفاع المقدّس ليست مجرّد تذكير بحدث تاريخي، بل تجديد للعهد مع القيم التي قادت الشعب الإيراني إلى النصر. ففي هذا الأسبوع، يُستحضر من جديد أسماء الشهداء والمضحّين والجرحى الذين صانوا بدمائهم وأرواحهم أمن واستقلال إيران.
إن إعادة قراءة تلك الملاحم ليست ديناً للماضي فقط، بل منارة للمستقبل. على الجيل الحاضر أن يدرك أنّ أمن اليوم هو ثمرة تضحيات الأمس. لقد علّمنا الدفاع المقدّس أنّ الشعب الذي يتحلّى بالإيمان والوحدة والصمود لن يُهزم أبداً. وبداية هذا الأسبوع هي في الواقع بداية تأمّل جديد في مفاهيم العزّة والاستقلال والمقاومة؛ القيم التي ما زالت حيّة وتنير درب الغد.