«رجال في الشمس»؛ رواية المنفى والصمت التي عبرت من فلسطين إلى إيران
وكالة برنا للأنباء، غسان كنفاني، الكاتب الفلسطيني البارز الذي اغتيل عام 1972، كتب «رجال في الشمس» ليحمل صرخة جيله في وجه النكبة والخذلان العربي. لكن قوة الرواية لم تتوقف عند حدود فلسطين؛ فبعد ترجمتها إلى الفارسية، صارت نصاً مشتركاً بين العرب والإيرانيين، يُقرأ كرمز للمنفى، والخذلان، والبحث عن صوت في مواجهة الصمت. إدراجها في النقاشات الثقافية والأكاديمية بإيران جعلها أكثر من عمل أدبي؛ إنها وثيقة حية لجسر ثقافي يتجدد بين الضفتين.
«رجال في الشمس»؛ الصرخة الصامتة لفلسطين وصداها في إيران
صدرت رواية «رجال في الشمس» للكاتب والصحفي والمناضل الفلسطيني غسان كنفاني (1936–1972) عام 1963، وسرعان ما أصبحت من أهمّ النصوص الرمزية في أدب المقاومة الفلسطينية. كنفاني، الذي عاش تجربة اللجوء منذ طفولته بعد نكبة 1948، استطاع بلغة موجزة وقوية أن يُجسِّد مأساة شعب كامل في قصة قصيرة ومكثفة تحمل في نهايتها سؤالاً صارخاً يتجاوز حدود الرواية: «لماذا لم تدقّوا الجدران؟». هذه العبارة وحدها تحولت إلى أيقونة أدبية وسياسية في الذاكرة العربية، إذ تلخص خطورة الصمت والاستسلام أمام الظلم.
القصة
تتمحور الرواية حول ثلاثة فلسطينيين يمثلون ثلاثة أجيال: أبو قيس، الشيخ العجوز الذي خسر أرضه وذكرياته؛ أسعد، الشاب المندفع الذي يبحث عن مستقبل أفضل؛ ومروان، الفتى اليافع الذي أجبره فقر عائلته على الهجرة. يلتقي الثلاثة بـأبو الخيزران، سائق شاحنة يعدهم بتهريبهم إلى الكويت عبر إخفائهم في خزان مياه فارغ.
يقبلون العرض مضطرين، لكن حرارة الصحراء القاتلة وتوقفات السائق المتكررة تؤدي إلى موتهم اختناقاً داخل الخزان. المشهد الأخير، حيث يصرخ أبو الخيزران أمام جثثهم: «لماذا لم تدقّوا الجدران؟»، يُعدّ من أكثر اللحظات مأساوية في الأدب العربي الحديث، ويجسد حقيقة مرة: أنّ الصمت في مواجهة الموت ليس خلاصاً، بل مشاركة في الهزيمة.
الدلالات
الرواية غنية بالرموز والمعاني رغم قِصَرها. الشخصيات الثلاثة تُجسّد مأساة النكبة في أبعادها المختلفة: الماضي المفقود، الحاضر المرتبك، والمستقبل المسلوب. أما أبو الخيزران، فيرمز إلى الزعماء والوسطاء الذين خانوا القضية أو عجزوا عن تحمّل مسؤولياتهم، فتحوّلوا من أدوات خلاص إلى أدوات هلاك.
ومن زاوية أخرى، يركّز كنفاني على الصمت القاتل. فالموت لم يكن نتيجة الاستعمار وحده، بل أيضاً نتيجة استسلام الضحايا أنفسهم. السؤال الأخير ليس مجرد عتاب، بل دعوة إلى الرفض والاحتجاج وكسر الجدران. وبذلك، تتحول الرواية إلى نقد مزدوج: ضد الاحتلال الإسرائيلي من جهة، وضد العجز والفساد العربي من جهة أخرى.
المكانة والاقتباس السينمائي
أحدثت «رجال في الشمس» صدى واسعاً في العالم العربي، وأُعيد طبعها مراراً لتصبح مرجعاً أساسياً في أدب المقاومة. قُرئت في الجامعات والصحف كصرخة جيل كامل، ورأى النقاد أنّ قوة كنفاني تكمن في قدرته على تحويل قصة بسيطة إلى رمز خالد.
في عام 1972، قدّم المخرج المصري توفيق صالح الفيلم السينمائي «المخدوعون» مقتبساً من الرواية. جسّد الفيلم على الشاشة قسوة الصحراء ومأساة الفلسطينيين، وعُرض في مهرجانات دولية مثل كارلوفي فاري حيث حظي بتقدير النقاد. لقد ساعد هذا الاقتباس السينمائي على نقل رسالة كنفاني إلى جمهور عالمي، وأكد أنّ الأدب والسينما معاً قادران على إيصال صوت فلسطين أبعد من حدود العالم العربي.
الصدى في إيران
لم يقتصر تأثير الرواية على العالم العربي، بل وصل صداه إلى إيران أيضاً. فقد كانت «مردانی در آفتاب» من أوائل الأعمال الفلسطينية التي تُرجمت إلى الفارسية. قام عدة مترجمين بترجمتها، غير أنّ النسخة التي أنجزها صالح علماني، المترجم السوري–الفلسطيني المقيم في إيران، نالت مكانة خاصة. فقد نجح علماني في الحفاظ على لغة كنفاني البسيطة والمكثفة، مما جعل الرواية قريبة من القارئ الفارسي.
لاقى الكتاب إقبالاً واسعاً لعدة أسباب: أوّلها، أنّ الإيرانيين وجدوا في مأساة الفلسطينيين انعكاساً لتجاربهم مع الاستبداد والاستعمار؛ وثانيها، أنّ بساطة الأسلوب جعلت النص مفهوماً وعميقاً في آن واحد؛ وثالثها، أنّ السؤال الرمزي «لماذا لم تدقّوا الجدران؟» بدا للإيرانيين موجهاً إليهم أيضاً، باعتباره نقداً للصمت والخضوع. ومنذ سبعينيات القرن الماضي، أصبح الكتاب جزءاً من النقاشات الثقافية والسياسية في الجامعات والمحافل الفكرية الإيرانية، مما عزز حضوره في الذاكرة المشتركة للشعبين.
جسر ثقافي بين إيران والعالم العربي
تُعدّ «رجال في الشمس» مثالاً واضحاً على كيفية تحوّل الأدب إلى جسر عابر للحدود. فكاتب فلسطيني يسرد مأساة وطنه، فيُترجَم نصّه إلى الفارسية، ويجد القارئ الإيراني فيه صدى لتجاربه ومعاناته. هذا التبادل الثقافي لا يقتصر على التعاطف، بل يولّد لغة مشتركة من الرموز والمعاني التي توحد الشعوب في مواجهة الظلم.
إن السؤال الأخير في الرواية—«لماذا لم تدقّوا الجدران؟»—لم يعد حكراً على فلسطين، بل أصبح خطاباً موجهاً لكل أمة تُواجه القهر. في إيران، كما في العالم العربي، تردّد صدى هذا السؤال ليذكّر القراء بأنّ الصمت ليس خياراً، وأنّ الأدب يمكن أن يكون أداة وعي ومقاومة. وهكذا، تجاوزت الرواية حدودها الوطنية لتصبح وثيقة إنسانية مشتركة بين العرب والإيرانيين على حد سواء.
*انتهى*