إيران بين الماضي والحاضر: آلية الزناد بظروف جديدة
وأفادت وكالة برنا للأنباء، منذ أكثر من عشرين عاماً يشكّل الملف النووي الإيراني محوراً للتجاذب الدولي، حيث تعاقبت العقوبات والقرارات والوساطات من دون أن تُنتج حلاً نهائياً. وخلال هذه الفترة، أثبتت التجربة أنّ إيران لم تتراجع عن خياراتها الاستراتيجية رغم تغيّر الإدارات الأميركية وتبدّل مواقف القوى الكبرى. واليوم، ومع عودة آلية الزناد إلى الساحة، تطرح تساؤلات جديدة حول ما إذا كان المشهد سيعيد إنتاج الماضي أم أنّ الظروف تغيّرت بشكل يجعل النتائج مختلفة تماماً.
إيران وآلية الزناد؛ من ضغوط الماضي إلى فرص الحاضر
عودة عقوبات مجلس الأمن ضد إيران عبر آلية الزناد، في النظرة الأولى يمكن أن تُعتبر دليلاً على فشل الدبلوماسية وزيادة الضغوط على طهران. ولكن إذا استعرضنا مسار العقدين الماضيين سنجد أنّ هذا الحدث يمكن تفسيره في إطار مختلف أيضاً. فالوضع الحالي لإيران لا يُقارن بالسنوات الأولى للأزمة النووية؛ فالمكانة الإقليمية والدولية للبلاد تغيّرت، وقدراتها النووية والدبلوماسية أصبحت في موقع أعلى بكثير مما كانت عليه في أي مرحلة سابقة. ولهذا السبب، فإنّ عودة العقوبات لا تعني بالضرورة خسارة إيران في ميدان السياسة والدبلوماسية، بل يمكن أن تكون جزءاً من دورة انتهت في كل مرة بتثبيت أكبر لموقع إيران.
من إجماع عالمي ضد إيران إلى صمود البرنامج النووي
في أوائل العقد الأول من الألفية الجديدة، دخل الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن عام 2003. في تلك الفترة، وقفت تقريباً جميع القوى الكبرى في مواجهة إيران. ومن 2006 إلى 2010 تمّ تمرير عدة قرارات ملزمة ضد إيران فرضت قيوداً شديدة على القطاعات المالية والتسليحية والاقتصادية للبلاد. وكان متوقعاً من الغرب أن يؤدي مثل هذا الإجماع في النهاية إلى تراجع إيران الكامل وتوقف أنشطة التخصيب بشكل كامل. لكن الواقع اتخذ مساراً مختلفاً؛ إذ إنّ إيران، رغم الضغوط الثقيلة، استطاعت أن تواصل دورة التخصيب ولم تتخلَّ أبداً عن حقها النووي. هذا الصمود، إلى جانب المفاوضات الدورية، أظهر أنّ إيران لم تكن فقط قادرة على تحمّل العقوبات بل استطاعت من خلال دبلوماسية ذكية أن تمنع نفسها من العزلة الكاملة.
الاتفاق النووي؛ نقطة تحوّل في الاعتراف بحق إيران النووي
عام 2015 كان لحظة تاريخية لإيران. فبعد أكثر من عقد من الصراع، تم توقيع الاتفاق النووي المعروف بخطة العمل الشاملة المشتركة بين إيران ومجموعة 1+5. هذا الاتفاق اعترف لأول مرة بحق إيران في تخصيب اليورانيوم على المستوى الدولي؛ وهو حق كانت القوى الغربية تعارضه بشدة سابقاً وتطالب دائماً بتخصيب صفر. استطاعت إيران من خلال مفاوضات ذكية أن توقف ضغوط مجلس الأمن، وتم رفع أو تعليق مجموعة من العقوبات. أظهر الاتفاق أنّ الجمع بين المقاومة والدبلوماسية يمكن أن يؤدي إلى نتيجة لا تُعدّل فقط مطالب الغرب بل تثبّت أيضاً الموقع القانوني لإيران. ومن هذه الزاوية، يُعتبر الاتفاق النووي أحد أكبر إنجازات السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية الذي رسّخ شرعية إيران النووية.
سياسة الضغط الأقصى الأمريكية وصبر إيران الاستراتيجي
مع خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018 وبدء سياسة الضغط الأقصى، كان من المتوقع مجدداً أن تدخل إيران في أزمة سريعة وتستسلم لظروف واشنطن. كانت إدارة ترامب تتصور أنّ إعادة فرض العقوبات وحدها كافية لكي تجلس إيران إلى طاولة جديدة من المفاوضات بشروط أحادية. لكن إيران باعتماد سياسة الصبر الاستراتيجي، حاولت في البداية إعطاء فرصة لأوروبا لتنفيذ التزاماتها الاقتصادية. وعندما لم يتحقق ذلك، بدأت طهران بتقليص التزاماتها بشكل تدريجي، لكنها لم تغادر أبداً طاولة المفاوضات. هذا الإجراء أظهر أنّ إيران تملك أدوات ضغط خاصة بها، وفي الوقت نفسه أبقت لغة الدبلوماسية مفتوحة. والأهم أنّ الولايات المتحدة لم تستطع في هذه الفترة أن تعيد بناء الإجماع العالمي ضد إيران؛ فلم تنضم أوروبا ولا روسيا ولا الصين إلى سياسة الضغط الأقصى التي انتهجتها واشنطن، وكان هذا بحد ذاته إنجازاً مهماً لإيران.
آلية الزناد عام 2025؛ ظروف مختلفة تماماً عن الماضي
الآن، وبعد فشل مشروع تأجيل العقوبات ستة أشهر في مجلس الأمن، تم تفعيل آلية الزناد وعادت عقوبات الأمم المتحدة. ومع ذلك، فإنّ الوضع اليوم لا يشبه بأي حال من الأحوال سنوات 2006 أو حتى 2010. فإيران اليوم، من جهة، لديها علاقات استراتيجية واسعة مع قوى مثل الصين وروسيا، ومن جهة أخرى استطاعت أن تعيد بناء علاقاتها الإقليمية مع لاعبين مثل السعودية. كما أنّ القدرات النووية لإيران باتت في مستوى أعلى بكثير مقارنة بعام 2015، وهذا الأمر يجعل الضغوط السياسية أقل تأثيراً. وحتى الرأي العام الدولي لم يعد موحداً ضد إيران؛ إذ أظهر التصويت الأخير في مجلس الأمن انقسامات جدية في مواقف القوى الكبرى تجاه ملف إيران. وبالتالي، رغم أنّ عودة العقوبات تبدو في الظاهر دليلاً على الضغط، إلا أنّ الحقيقة هي أنّ إيران باتت في موقع تستطيع من خلاله إدارة تكاليف الضغط أفضل بكثير من الماضي.
الرسالة الأساسية لإيران والعالم
من زاوية تحليلية، فإنّ مسار العشرين عاماً الماضية يرسل رسالة واضحة: الضغوط والعقوبات لم تجبر إيران أبداً على التراجع الاستراتيجي. بل على العكس، كل مرة ازدادت فيها الضغوط، استطاعت إيران أن تحقق مكسباً جديداً، سواء على الصعيد القانوني والدبلوماسي كما حصل عام 2015، أو على صعيد القدرات النووية كما نراه اليوم. واليوم أيضاً، فإنّ تفعيل آلية الزناد لا يمثل نهاية الدبلوماسية ولا نهاية طريق إيران. بل هو إشارة أخرى على أنّ أداة الضغط وحدها غير قادرة على تغيير معادلات إيران الاستراتيجية. فطهران ما زالت تواصل اللعب بالاعتماد على قدراتها الفنية وطاقتها على الصمود الاقتصادي وخياراتها الدبلوماسية. أما بالنسبة للمجتمع الدولي، فقد أصبح من الواضح أكثر من أي وقت مضى أنّ حل الملف النووي الإيراني لن يكون من خلال الضغط المطلق، بل فقط من خلال التفاوض والاعتراف بالحقائق الجديدة على الأرض.