مولانا؛ الصوت الخالد للحب والحقيقة في العالم
وكالة برنا للأنباء، لم يكن مولانا مجرد شاعر أو فقيه أو عارف؛ بل كان أفقاً جديداً في مسار الثقافة والروحانية. حياته كلها رحلة بحث عن الحقيقة. وُلد في بلخ، وهاجر إلى قونية، وهناك بلغ شهرة واسعة، قبل أن يتحوّل بفعل العشق إلى رمز إنساني عالمي. جمع بين العقل والعاطفة، بين الشريعة والطريقة، بين الفقه والشعر، ليصوغ رسالة خالدة للبشرية جمعاء.
اسمه يقترن دائماً بصوت الناي، كما قال في مطلع مثنويه:
«استمع إلى الناي كيف يحكي، وكيف يشكو من فراقه»
هذه ليست مجرد صورة شعرية، بل صرخة الروح المفصولة عن أصلها الإلهي، ونداء عالمي لكل نفس تشعر بالاغتراب.
إنّ الاحتفاء بمولانا هو تذكير بأنّ العالم بلا حبّ ليس سوى ظلّ بلا حياة. وهذه الرؤية بالذات هي ما جعله يتجاوز حدود الزمان والمكان ليصبح ميراثاً مشتركاً لكلّ الإنسانية.
من بلخ إلى قونية؛ رحلة تكوين العارف
وُلد مولانا عام ٦٠٤ هـ في بلخ، المدينة التي كانت آنذاك منارة للعلم والثقافة في العالم الإسلامي. نشأ في بيتٍ تغذّى بالفقه والتصوف، إذ كان والده بهاء الدين وَلَد عالماً بارزاً.
ثم جاءت الهجرة إلى قونية لتفتح أمامه مرحلة جديدة. هناك برز في بداية حياته فقيهاً وخطيباً مفوّهاً، تحيط به حلقات العلم ويقصده طلاب الحقيقة. لكن قونية لم تكن مجرد محطة للعلم، بل صارت لاحقاً نقطة تحوّل روحي عميق.
ففي النصف الأول من عمره كان يركن إلى العقل والدرس، أما النصف الثاني فقد انقلب تماماً بفضل اللقاء بشمس التبريزي. ومنذ ذلك الحين لم تعد قونية مدينة إقامة جسدية فحسب، بل صارت مهد ولادته الثانية، ولادة العاشق والشاعر والعارف.
شمس التبريزي؛ النور الذي أشعل مولانا
كان لقاء مولانا بشمس لحظة فاصلة. شمس، الرجل الغامض المشتعل بالحب، غيّر مسار حياة مولانا وأطلق فيه ثورة داخلية. تحوّل الدرس والخطابة إلى شعر وسماع، والعلم الرسمي إلى هيام روحي.
وقد عبّر مولانا عن هذه التجربة قائلاً:
«أُحبّه في غضبه كما في لطفه، يا للعجب! لقد عشقتُ الضدّين معاً»
في هذه الكلمات يتجلّى قلبٌ رأى الحقيقة في كلّ وجه، حتى في القهر كما في اللطف.
ارتباطه بشمس تجاوز حدود الصحبة والتعليم؛ كان اتحاداً روحياً جعل الاثنين ناراً واحدة. وبعد غياب شمس، ظلّ مولانا يحترق بنار الفراق، فتحوّلت آلامه إلى أبيات «ديوان شمس»؛ ذلك الديوان الذي يُعدّ من أجرأ ما كُتب في تاريخ الشعر الصوفي.
المثنوي المعنوي؛ كتاب لكل العصور
إنّ «المثنوي المعنوي» هو تاج إبداعات مولانا، حتى قيل عنه إنّه «قرآن بالفارسية». في ستة دفاتر ضخمة نسج من الحكايات والرموز عالماً من المعاني التي لا تنضب.
يفتتح المثنوي بالناي الذي يئنّ من فراق أصله، ثم ينثر بين قصص الملوك والعبيد والحيوانات الناطقة دروساً روحية عميقة. كان أسلوبه بسيطاً في ظاهره، لكنه يغوص في أعمق الأسرار.
ويقول مولانا في أحد أبياته:
«يا أخي، إنّك فكرٌ خالص، وما عدا ذلك عظمٌ وجذور»
بهذا يذكّر أنّ جوهر الإنسان هو روحه وعقله المستنير، لا جسده الفاني.
المثنوي اليوم مادة للدرس في جامعات الشرق والغرب. ومع كل جيل جديد تُكتشف فيه معانٍ لم تُقرأ من قبل، وهذا سرّ خلوده ودوامه.
مضامين خالدة في شعر مولانا
يحضر في شعر مولانا موضوع «الفراق والوصال» بقوة. فهو يرى الإنسان غريباً عن أصله، تواقاً دوماً إلى العودة:
«كلُّ من ابتعد عن أصله، يظلّ يطلب زمان وصاله»
أما العشق، فهو لبّ رسالته. عشقٌ لا يعرف حدوداً، يرى الجمال في الألم كما في الفرح، ويحوّل كل تجربة إلى سلّم نحو الكمال. ليس العشق عنده عاطفة بشرية فحسب، بل قوّة كونية تحرّك الوجود بأسره.
وكان يؤمن أيضاً أنّ جميع الأصوات والمظاهر في النهاية انعكاس لصوت واحد، هو صوت الحق. فالكثرة في نظره لا تلغي الوحدة، بل تجلّيها. ولهذا بقي شعره قادراً على مخاطبة إنسان كل زمان ومكان.
مولانا في عالم اليوم
لم يعرف أي شاعر فارسي شهرة عالمية مثل مولانا. تُرجمت أعماله إلى عشرات اللغات، وهو من بين أكثر الشعراء مبيعاً في الغرب. رقصة السماع التي ارتبطت باسمه باتت رمزاً ثقافياً عالمياً مدرجاً على لائحة التراث الإنساني.
اليوم يُنظر إلى مولانا كجسر بين الشرق والغرب، بين الماضي والحداثة. وفي عالم يضجّ بالعنف والانقسام، يقدّم صوته بديلاً واضحاً: أن الحبّ وحده هو طريق الخلاص.
ألهمت أشعاره المسرح والموسيقى والسينما، بل دخلت حتى في مجالات علم النفس والعلاج الروحي. فهو ليس مجرد شاعر القرن السابع، بل مرشد الإنسان في القرن الحادي والعشرين أيضاً.
كلمة أخيرة
إنّ تكريم مولانا هو تكريم للحبّ والحقيقة والإنسانية. لقد أنعش بكلماته العالم قروناً طويلة، وما زال يوقظ القلوب برسالته. شمسٌ أشرقت في القرن السابع، وما زال نورها يمتدّ إلى يومنا هذا.
رسالته بسيطة وعميقة في آن: بلا عشق لا حقيقة، وبلا حقيقة لا يدوم أي عشق.
وقد لخّص ذلك ببيت بليغ قال فيه:
«كلّ هذه الأصوات من الملك، وإن خرجت من حنجرة عبده»
في هذا البيت تتجسّد رؤيته: كلّ جمال مصدره الله، حتى لو تجلّى عبر لسان بشر. واليوم، إن أرادت الإنسانية الخلاص، فعليها أن تصغي من جديد إلى صوت مولانا، الصوت الذي يدعوها لرحلة من الفراق إلى الوصال، من الكراهية إلى الحب، ومن الظلمة إلى نور الحقيقة.
*انتهى*