من الأساطير القديمة إلى الثقافة المعاصرة؛ احتفال لتكريم النور والعهد والصداقة

١٠ مهر (٢ أكتوبر)، عيد مهرغان؛ الطقس الخالد للمحبّة والعدالة والتضامن الإيراني

|
۲۰۲۵/۱۰/۰۲
|
۱۳:۳۵:۰۳
| رمز الخبر: ۶۷۸
١٠ مهر (٢ أكتوبر)، عيد مهرغان؛ الطقس الخالد للمحبّة والعدالة والتضامن الإيراني
عيد مهرغان، أحد أبهى وأعرق الأعياد في إيران، كان يُقام في العاشر من شهر مهر (مطلع أكتوبر تقريباً). ويُعدّ هذا العيد، إلى جانب عيد النوروز، من أعظم الاحتفالات الوطنية للإيرانيين. فمهرغان لم يكن طقساً دينياً فحسب، بل كان احتفالاً اجتماعياً وثقافياً وسياسياً يجتمع فيه معنى العدالة والوفاء والشكر. إنه عيد نهاية موسم الحصاد، وبداية فصل جديد من الحياة، ورمز للوحدة والتكافل الاجتماعي. وما يزال صدى رسالته يتردّد حتى اليوم بعد قرون طويلة.

وأفادت وكالة برنا للأنباء، كان الإيرانيون القدامى يضفون المعنى على حياتهم من خلال الأعياد الكثيرة. من نوروز في مطلع الربيع إلى سَده في منتصف الشتاء، كان لكل عيد رمزيّته المرتبطة بدورة الطبيعة. وفي هذا السياق، احتلّ عيد مهرغان موقعاً موازياً للنوروز، وارتبط بالإله «مهر» (ميثرا)؛ إله العهد والعدالة والمحبة والنور. وقد اختير اليوم العاشر من شهر مهر لإقامة هذا الطقس، لما للعدد عشرة من دلالة على الكمال والتوازن في الثقافة الإيرانية القديمة.

في هذا العيد، كان الناس يجتمعون بالفرح والشكر. الفلاحون يحتفلون بانتهاء موسم الحصاد، والأسر تفرش الموائد الملوّنة، والملوك والعامة يشاركون معاً في الاحتفالات. فمهرغان كان يجمع بين الروحانية والواقع المعيشي؛ مزيج من الطقس الديني والاجتماعي والطبيعي. والحقيقة أنّ مهرغان كان انعكاساً للرؤية الكونية عند الإيرانيين: الإيمان بانتصار النور على الظلام، وأهمية العهد والوفاء، وضرورة العدل في المجتمع. ولذلك لم يكن عيداً عادياً، بل مدرسة تغرس القيم الإنسانية في نفوس الأجيال.

التاريخ والجذور

يعود أصل عيد مهرغان إلى معتقدات إيران القديمة وديانة الميثرائية. فقد كان «مهر» أو «ميثرا» أحد أعظم الآلهة في الميثولوجيا الإيرانية، وحامياً للعهود وقاضياً للعدالة. وقد ورد في «الأڤستا» مراراً تمجيد لمهر بوصفه شاهداً على الصدق وعدواً للكذب.

في العصر الأخميني، بلغ مهرجان أوج عظمته. تُشير المصادر التاريخية إلى أنّ الملوك خصّصوا هذا اليوم لإعلان العدل والعفو. ويُروى أن داريوش وخلفاءه أصدروا في هذا اليوم مراسيم تُعزّز المساواة والطمأنينة. وهذا يدلّ على أنّ مهرغان لم يكن طقساً دينياً وحسب، بل أداة سياسية واجتماعية لتقوية اللحمة الوطنية. وفي «الشاهنامه»، يصف الفردوسي مهرغان بأنه يوم انتصار «فريدون» على «ضحّاك»؛ وهو رمز لانتصار النور على الظلم. هذا السرد رفع من شأن العيد وجعله رمزاً للكفاح ضد الاستبداد وصون الحرية. أمّا في العصر الساساني، فقد استمر الاحتفال بمهرغان عدة أيام متواصلة، وشهدت البلاطات الملكية مراسم عظيمة أظهرت مكانته المرموقة. اللافت أنّ الميثرائية امتدّت فيما بعد إلى خارج إيران. ففي روما القديمة، عُبد «ميثراس» بوصفه إله النور والعهد، وانتشرت طقوسه على نطاق واسع. وهذا يثبت أنّ عيد مهرغان وأفكاره تجاوزت حدود إيران لتترك بصمة على حضارات أخرى.

الطقوس والعادات

كان مهرغان مصحوباً بعادات ملوّنة. في البيوت كانت تُفرش موائد يُوضَع عليها الرمان والتفاح والعنب والسفرجل، إلى جانب الأزهار العطرة، والحبوب الملوّنة، والمرايا، والبخور. وكانت هذه المائدة رمزاً للبركة والشكر للأرض والخالق. وغالباً ما كان يغلب عليها اللونان الأحمر والبنفسجي، بوصفهما رمزَي النور والمحبة الإلهية.

يلبس الناس في هذا اليوم ثياباً جديدة وفاتحة، ويزيّنون البيوت. يُشعلون النار ويجتمعون حولها للغناء والابتهاج. كان يُرتّل الشعراء الأناشيد القديمة، ويعزف الموسيقيون الألحان المبهجة. وقد ورد أنّ الملوك كانوا يشاركون الناس الاحتفالات دون تمييز بين غني وفقير. من الطقوس المهمة أيضاً الكرم ومساعدة المحتاجين. إذ تُوزَّع الأطعمة والهدايا على الجميع، فلا يبقى أحد محروم في هذا اليوم الكبير. وهذه الروح المساواتية كانت من أبرز قيم مهرغان. وكانت هناك مراسم أخرى، مثل شرب النبيذ رمزاً للفرح والارتباط بالقوى الطبيعية. وفي بعض الروايات كان الملوك يضعون تيجاناً بنفسجية دلالة على النور والمحبّة.

١٠ مهر (٢ أكتوبر تقريباً)، عيد مهرجان؛ الطقس الخالد للمحبّة والعدالة والتضامن الإيراني

الرموز والفلسفة

يقوم مهرغان على أربعة محاور أساسية: المحبة، العدالة، العهد، والنور. فـ«مهر» الذي سُمّي العيد باسمه كان، في اعتقاد الإيرانيين، ضامناً للعهود ورقيباً على سلوك البشر. ومن هنا أصبح العيد فرصة للتذكير بقداسة الصدق والوفاء. أما العدد «عشرة» الذي يوافق يوم مهرغان، فكان رمزاً للكمال في الثقافة الإيرانية. وقد عُدّ اختيار اليوم العاشر من شهر مهر علامة على تمام دورة الحياة وتوازنها الطبيعي.

من الناحية الطبيعية، كان العيد يتزامن مع انتهاء موسم الحصاد الزراعي. وكان بذلك شكراً عملياً للأرض وللخالق على عطاياه. وهكذا جمع مهرغان بين الروحانية والعدالة والحياة اليومية؛ عيداً يُقرّب الإنسان من الخالق ومن الطبيعة في آن. كما ركّزت فلسفة العيد على المساواة الاجتماعية. ففي هذا اليوم كان الناس يجلسون معاً دون فروق طبقية. وهذا المعنى العميق للعدالة الاجتماعية كان جزءاً لا يتجزأ من روح مهرغان.

مهرجان في الأدب والفنون

انعكست أصداء مهرغان بقوة في الأدب الفارسي. ففي «الشاهنامه»، وصف الفردوسي هذا العيد بأنه يوم النصر والعدل. وذكره منوچهري وعنصري في قصائدهما رمزاً لجمال الطبيعة الخريفيّة. وحتى في العصر الإسلامي، أشار شعراء كبار كحافظ وسعدي إلى قيم المحبة والعدالة ذات الجذور في طقوس قديمة مثل مهرغان.

أما في الأدب الصوفي، فقد اعتُبر العيد رمزاً للنور الداخلي وانتصار الروح على ظلمات النفس. وعدّه بعض العارفين تجسيداً للكمال الروحي وللثبات على العهد مع الحقيقة. الفن الإيراني بدوره احتضن مهرغان. ففي المنمنمات والجداريات القديمة، تُرى مشاهد الموائد الملوّنة والاحتفالات الجماعية. بل إنّ رموز الشمس وأشعة النور في العمارة والنقوش كانت تستحضر مهر. وفي العصر الحديث، ما زال الفنانون ينهلون من هذا العيد. تُقام المعارض، وتُرسم اللوحات، وتُكتب القصائد الحديثة بإلهام من مهرغان، دليلاً على بقاءه في الذاكرة الثقافية الإيرانية.

مهرجان في الثقافة المعاصرة والعالم

رغم مرور قرون، لم يختفِ مهرغان. ففي بعض مناطق إيران مثل يزد وكرمان وخراسان، ما زال الزرادشتيون وغيرهم يحتفلون به سنوياً. كما يُحييه الإيرانيون المهاجرون في أوروبا وأمريكا رمزاً لهويتهم وارتباطهم بجذورهم. وعلى المستوى العالمي، يمكن أن يحظى مهرغان بمكانة مشابهة للنوروز كميراث مشترك للإنسانية. فقد أشار باحثون غربيون إلى تأثير الميثرائية في تشكيل بعض الفلسفات الدينية والاجتماعية. مما يثبت أن مهرغان ليس ملكاً لإيران وحدها، بل يحمل رسالة إنسانية كونية. واليوم، مع ما يشهده العالم من أزمات اجتماعية وبيئية وأخلاقية، تبدو رسالة مهرغان أكثر راهنية: العدالة، المحبة، التضامن. إنه عيد يذكّرنا بأنّ مستقبل البشرية يقوم على هذه القيم، لا على النزاع والتفرقة.

الكلمة الختامية

١٠ مهر (٢ أكتوبر)، عيد مهرغان، ليس مجرد احتفال قديم؛ بل هو رسالة خالدة من العدالة والوفاء والمحبّة. فهو يعلّمنا أن العالم لا يقوم على الكذب ونقض العهود، بل يستقرّ على الصدق والوفاء. إذا كان النوروز بداية الحياة الجديدة في الربيع، فإنّ مهرغان عيد النضج والنموّ في منتصف العام. هو فرصة للتأمل، للعودة إلى الذات، ولتحقيق التوازن بين الإنسان والطبيعة والخالق. إنّ مهرغان يقول لنا إنّ المجتمع المستقرّ هو ذاك الذي تغلب فيه العدالة على الظلم، وتنتصر المحبّة على الكراهية. وهذه الرسالة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، ضرورية لنا جميعاً. إنه إرث عريق، لكنه أيضاً مصباح يضيء طريق المستقبل؛ مصباح من نور المحبّة والعدالة والتضامن.

رأيك