من الأساطير القديمة إلى الشعائر الدينية الحيّة؛

مراسم غَسْل السجادة في قرية "أردَهال"؛ الطقس الإسلامي الوحيد الذي يُقام وفق التقويم الشمسي

|
۲۰۲۵/۱۰/۰۳
|
۱۴:۳۰:۱۴
| رمز الخبر: ۶۹۲
مراسم غَسْل السجادة في قرية أردَهال؛ الطقس الإسلامي الوحيد الذي يُقام وفق التقويم الشمسي
مراسم غَسْل السجادة في قرية "أردَهال" هو الطقس الإسلامي الوحيد الذي لا يعتمد على التقويم القمري بل يُقام وفق التقويم الشمسي؛ طقس عمره قرون، يقام كل خريف في قرية "مشهد أردَهال" قرب كاشان ويجمع بين الإيمان والأسطورة والتلاحم الشعبي.

وكالة برنا للأنباء، يُقام من كل عام في ثاني جمعة من شهر مهر وهو الشهر السابع في التقويم الشمسي، في قرية مشهد أردَهال غرب كاشان طقس تقليدي مهيب يُعرف بـ«غَسْل السجادة»، إحياءً لذكرى استشهاد الإمام سلطان علي بن محمد الباقر (ع). يتميّز هذا الطقس عن سائر الشعائر الدينية في العالم الإسلامي كونه الوحيد الذي يُنظَّم وفق التقويم الشمسي، لا القمري. وقد سُجّل في قائمة التراث الثقافي غير المادي لليونسكو عام 2012، ما منحه بعداً عالمياً يتجاوز حدوده المحلية.

الجذور التاريخية والروايات

ترجع جذور هذا الطقس إلى أكثر من ألف عام، حينما استُشهد الإمام سلطان علي في مواجهة غير متكافئة. ووفق الرواية الشعبية، لُفّ جسده في سجادة ونُقل إلى نبع لغسله قبل دفنه. تحوّل هذا الحدث البسيط إلى نواة طقس جماعي متوارث عبر الأجيال. المصادر التاريخية مثل «تاريخ قم» و«تاريخ كاشان» وكتابات عبد الرحيم كلانتر ضرابي، كلها تشير إلى استمرارية هذا التقليد. ومع مرور القرون، لم يبقَ الطقس مجرد ذكرى دينية بل أصبح جزءاً من الذاكرة الجمعية والهوية الثقافية للمنطقة. إن صمود الطقس أمام تغيّرات الزمن والسياسة دليل على عمقه المجتمعي، حيث يشارك فيه الأهالي جيلاً بعد جيل ليعيدوا سرد القصة بلغة الجسد والحركة.

الزمان والمكان؛ خصوصية شمسية وجغرافيا طقسية

الفرادة الكبرى لغَسْل السجادة تكمن في توقيته الشمسي؛ إذ يُقام سنوياً في ثاني جمعة من شهر مهر، متزامناً مع احتفالات «مهرجان» الإيراني القديم. هذا التزامن دفع الباحثين إلى ربط الطقس بجذور ما قبل الإسلام، إذ يرى بعضهم أنه امتداد لطقوس الخريف الزراعية. أما مكانه فهو مشهد أردَهال، على بُعد 42 كيلومتراً من كاشان، في منطقة جبلية تُعرف بـ«كربلاء إيران». الطبيعة الجبلية المعزولة وفّرت فضاءً روحياً وحافظت على أصالة المراسم. مسار انتقال السجادة من صحن الضريح إلى النبع ثم العودة، تحوّل إلى «ممر طقوسي» له دلالات ومعانٍ تتكرّر كل عام. وهكذا أصبح الزمان والمكان شريكين أساسيين في إنتاج معنى الطقس.

تفاصيل المراسم؛ من «جمعة الجار» إلى الغَسْل الرمزي

تبدأ التحضيرات بـ«جمعة الجار» حيث يطوف المنادون في الأسواق والأحياء داعين الناس للمشاركة. في يوم المراسم، يستلم أهالي قرية خاوه سجادة ملفوفة من خدّام الضريح، يُعتقد أنها مثّلت كفن الإمامزاده. بعد العزاء والندب، تُسلَّم السجادة إلى شباب فين الذين يحملونها على أكتافهم وسط حشود ضخمة. كل مشارك يمسك بعصاً طويلة، يهزّها في الهواء أو يضرب بها الأرض، في مشهد قتال رمزي ضد قتلة الإمامزاده. يتقدّم الموكب نحو النبع حيث تُبلَّل السجادة بالماء، في محاكاة لغسل الجثمان. ثم تُعاد السجادة إلى الضريح وسط الهتافات والرجز والدموع، ويُختتم الطقس بالندب والدعاء. هذا التسلسل، من الاستلام إلى الغسل ثم العودة، يُجسّد سردية جماعية تُعاد سنوياً بحضور عشرات الآلاف.

 الأبعاد الأسطورية والقراءات البحثية

لا يقتصر الطقس على روايته الدينية، بل يحوي طبقات أسطورية عميقة. الباحث بهرام بيضائي يربطه بـ«مأساة سياوَش» في الشاهنامة؛ الأمير البريء الذي قُتل ظلماً وأُقيمت له طقوس الحداد والغَسل. التشابه واضح: موت البريء، الندب الجماعي، حضور الماء، وزمن الخريف. باحثون آخرون ربطوه بطقوس طلب المطر وعبادة «تِشتر» إله المطر في المعتقدات الإيرانية القديمة. من هذا المنظور، سكب الماء على السجادة ليس فقط غسل الشهيد بل دعاء للخصب والبركة. تداخل هذه القراءات يمنح المراسم أبعاداً متعدّدة: فهي في آنٍ واحد دينية، أسطورية وزراعية، ما يجعلها موضوعاً غنياً للدراسات الأنثروبولوجية والتاريخية.

 رمزية العناصر؛ السجادة والماء والعصا والصوت

كل عنصر في المراسم يحمل رمزاً خاصاً. السجادة الملفوفة ترمز إلى جسد الإمام، لكنها أيضاً رمز للبيت والأرض في الثقافة الإيرانية. الماء يمثّل الغسل الديني من جهة، ومن جهة أخرى يرمز إلى الحياة والخصوبة. العصي في أيدي المشاركين أسلحة رمزية، تُحاكي الصراع بين الخير والشر وتُجسّد التضامن الجماعي. الأصوات، من الهتافات إلى الأناشيد، تضفي على الحركة معنى وتحوّلها إلى عرض جماعي حيّ. حتى مسار السير من الصحن إلى النبع ثم العودة، هو مخطّط رمزي يعكس الرحلة من الموت إلى الحياة ومن الفقد إلى الأمل. هذا النظام الرمزي البسيط في عناصره، العميق في دلالاته، يجعل الطقس مفهوماً حتى لغير المنتمين ثقافياً إليه.

 الأهمية الثقافية والتسجيل في اليونسكو

أدرجت منظمة اليونسكو عام 2012 «غَسْل السجادة في أردَهال» في قائمتها للتراث الثقافي غير المادي للبشرية. هذا الإدراج أبرز قيمته كإرث حيّ يتجاوز المحلّية إلى العالمية. ما يميّزه هو كثافة المشاركة الشعبية؛ حيث قد يصل عدد الحضور إلى أكثر من مئتي ألف شخص في بعض الأعوام. إلى جانب البعد الديني، ينعكس الطقس على المجتمع اقتصادياً من خلال تنشيط الأسواق والصناعات اليدوية والسياحة الدينية. النموذج التعاوني بين أهالي فين وخاوه يُظهر مثالاً فريداً لتقاسم الأدوار في صون التراث. بالنسبة للباحثين، يمثّل الطقس مادة بين-تخصّصية تربط بين التاريخ والدين والأنثروبولوجيا وفنون الأداء. أما للإعلام، فهو واجهة لعرض صورة إيران الثقافية والدينية أمام العالم.

غَسْل السجادة؛ حكاية لا تنطفئ

مراسم غَسْل السجادة في أردَهال ليست مجرد عزاء ديني؛ إنها مشهد حيّ يُعيد الإيرانيون من خلاله صياغة هويتهم كل عام. خصوصيته في توقيته الشمسي، رموزه المتعدّدة، أبعاده الأسطورية وطاقته الشعبية الضخمة، جعلته أيقونة ثقافية لا نظير لها. إنه جسر بين الماضي والحاضر؛ بين الأسطورة والدين؛ بين الذاكرة المحلية والتقدير العالمي. وفي كل ثاني جمعة من مهر، تعود قرية "أردَهال" لتصبح مسرحاً لعرض هذه الملحمة الطقوسية التي جمعت الإيمان بالتاريخ، والأسطورة بالهوية.

*انتهى*

رأيك