أوروبا على مفترق قرار تاريخي

الدبلوماسية، والآلية، واللعب على حافة التعليق

|
۲۰۲۵/۰۷/۱۴
|
۱۳:۳۸:۰۲
| رمز الخبر: ۲۸
في ظلّ الهدنة الهشّة في الشرق الأوسط، تبدو أوروبا اليوم منشغلة ليس فقط بدور دبلوماسي تقليدي، بل في خضمّ لعبة جديدة ومعقّدة؛ حيث تحوّلت «الآلية التلقائية» (Trigger Mechanism) إلى معادل سياسي لا يقلّ وزناً عن الضغوط العسكرية والعقوبات الأمريكية والإسرائيلية.

الدبلوماسية، والآلية، واللعب على حافة التعليقترجمة عن برنا مجموعة الشؤون الدولية: بينما لا تزال المنطقة معلّقة بعد الحرب التي استمرّت ۱۲ يوماً بين إيران والكيان الصهيوني، أصدرت أوروبا بياناً جديداً في إطار «لانكستر هاوس ۲» دون أن تشير صراحة إلى التصعيد المتزايد حول آلية التفعيل، لكنها في المقابل بدأت ترسم دوراً جديداً، لا يقتصر على الحفاظ على السلام فحسب، بل يمتدّ إلى دخول ميدان الضغط، ولكن بصيغة قانونية، ودبلوماسية، ومتعددة المستويات.

البيان المشترك لبريطانيا وفرنسا، والذي أُرفقت به لاحقاً ملحقات تشير إلى دور ألمانيا، تضمّن عدة محاور أساسية، كالحرب في أوكرانيا ودور أوروبا تجاه روسيا، إضافة إلى تأكيد استقلالية وتنسيق الجهود لتعزيز قدراتها العسكرية ضدّ التهديدات المستقبلية.
وفيما يتعلّق بإيران، ورد في البيان إشارة مقتضبة وغامضة إلى البرنامج النووي ودور الدبلوماسية والضغط، حيث جاء فيه:
«رغم تأكيد إيران على أنّ تصنيع واستخدام الأسلحة النووية لا مكان لهما في عقيدتها الدفاعية، فإننا نعيد تأكيد عزمنا على أن لا تمتلك إيران سلاحاً نووياً مطلقاً. سنواصل تعاوننا، بما في ذلك في إطار الترويكا الأوروبية مع ألمانيا، من أجل التوصّل إلى اتفاق قوي بشأن برنامج إيران النووي، يُراعي مصالحنا الأمنية المشتركة. كما سنواصل دعمنا لاستئناف التعاون الكامل بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية».

المحاور التي تناولتها أوروبا بشأن إيران، رغم طابعها الدبلوماسي وإصرارها على الحلول التفاوضية، تكشف من خلال الكلمات المفتاحية المستخدمة عن حالة من الغموض تُبرِز الطابع المزدوج للموقف الأوروبي الراهن. وهي مسألة يبدو أنها نالت حظًا من الاهتمام في بعض تصريحات وزير الخارجية الإيراني خلال حواره مع صحيفة «لوموند». فبينما لم يأتِ البيان المشترك للدولتين الأوروبيتين على ذكر قرار نهائي بشأن تفعيل آلية الزناد، إلا أن تأكيده على «التوصل إلى اتفاق قوي» بالتوازي مع «ضمان مصالح أوروبا» يعكس مزيجاً من الاستقلالية السياسية والمناورة في ساحة المفاوضات المحتملة بين طهران وواشنطن. إن استخدام عبارات مبهمة في البيان، في ظل الظروف الحالية، يبدو أقرب إلى تمهيد لتحول مفاجئ في المواقف، تماشياً مع السياسات القادمة لكل من طهران وواشنطن، أكثر من كونه مجرد تنشيط للأداء الدبلوماسي خلال فترة الهدنة. ومضمون مقابلة عباس عراقجي الأخيرة مع «لوموند» جاء ليعارض هذا التحول تحديداً، حيث قال: «تحذير إيران واضح: آلية الزناد قد تُعدّل بمثابة هجوم عسكري».

أوروبا: وسيط الأمس، أداة اليوم؟

عباس عراقجي، وزير الخارجية الإيراني، وفي حوار مهم مع صحيفة «لوموند» الفرنسية، وجّه انتقادات حادة لدور أوروبا في مسار المفاوضات النووية. وأكد بشكل واضح على «حق إيران في التخصيب»، معلنًا صراحةً أن «لا مفاوضات ممكنة بشأن البرنامج الصاروخي الإيراني». إلا أن الأهم في حديثه لم يكن الجانب العسكري بقدر ما كان نقداً للدور الأوروبي على أعتاب تفعيل آلية الزناد، حيث ترى طهران أن ممارسة الضغوط القانونية في هذا التوقيت تحديداً يُعدّ بمثابة رصاصة سياسية قد تُجهِز على المسار الدبلوماسي.

ما طالبت به طهران خلال الأشهر الأخيرة، هو تجنب الأوروبيين التحول إلى أدوات ضغط أو شركاء في حالة الشلل السياسي تحت ضغط طاولة المفاوضات. والتجارب السابقة في محادثات روما ومسقط تُظهر أن الأوروبيين، بدلاً من القيام بدور فاعل، مارسوا دور الأداة في يد واشنطن وتقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الحادة.

 

ترامب والدوافع الخفية للأوروبيين

رغم أن البيان المشترك للدولتين الأوروبيتين بشأن الحرب في أوكرانيا والملف النووي الإيراني جاء في ذروة تصاعد هذين الملفين، إلا أن بعض المحللين يرون أن تحوّل ترامب نحو دعم جديد لأوكرانيا، وبيع الأسلحة، وفرض عقوبات جديدة على روسيا، قد منح أوروبا مساحة أوسع للمناورة. الترويكا الأوروبية تسعى الآن إلى إظهار استقلاليتها السياسية مقابل هذه الحوافز، لكنها في الوقت نفسه تستخدم الأدوات نفسها التي استخدمها ترامب. اللغة الحادة والمواقف التصادمية من المسؤولين الأوروبيين، سواء في الحرب التي دامت 12 يوماً بين إيران وإسرائيل، أو في ما يتعلق بمسار المفاوضات النووية، تكشف عن أن أوروبا تسير على حافة قضايا عالمية شائكة. إشارة مراسل «لوموند» إلى ملف الصواريخ الإيرانية، ومضمون البيان الأوروبي بشأن «مصالح الغرب»، يعكسان تطابقًا في النهج مع الولايات المتحدة وإسرائيل في مواقف بعض الدول الأوروبية.

وفي رده على سؤال بشأن استعداد إيران للتفاوض حول برنامجها الصاروخي في حال طُلب منها ذلك، خصوصاً من جانب فرنسا، قال وزير الخارجية الإيراني: «إذا كانت فرنسا تتقبل تطوير بعض الدول الأخرى لصواريخ بعيدة المدى وبيعها في المنطقة، فلماذا تهاجم البرنامج الدفاعي الصاروخي الإيراني، الذي يتميز بمدى محدود ويعدّ جزءاً من منظومة الدفاع الوطنية؟ لقد أكدنا مراراً أن برنامجنا الصاروخي دفاعي ورادع بحت. وفي ظل التهديد المستمر من قبل إسرائيل والولايات المتحدة، لا يمكن أن يُتوقع من إيران التخلي عن قدراتها الدفاعية. وكما تحافظ الدول الأوروبية على حقها في الدفاع المشروع، فإن لإيران الحق نفسه، ولا يمكن التنازل عنه».

 

أوروبا وتناقض الدور السياسي

المواقف الأوروبية الحالية لا تعكس فقط خياراً سياسياً، بل تكشف عن أزمة مفهومية أعمق: هل تسعى أوروبا للحفاظ على كيان مستقل قائم على الحوار، أم أنها بصدد التحول إلى أداة مركبة للضغط السياسي؟ الإشارات الأوروبية إلى التفاوض والحضور المستمر للوكالة الدولية للطاقة الذرية في إيران، بالتوازي مع مطالب غير رسمية وتصريحات إعلامية، لا تشير إلى دور وساطة بقدر ما تدفع بالأوضاع نحو التوتر. عراقجي يقول: «التهديد بالعقوبات لا يخدم الدبلوماسية. إذا كانت أوروبا جادة في لعب دور محوري، فعليها أن تثبت استقلالية قرارها وحيادها. يمكن لأوروبا أن تؤدي دوراً بناءً في الحفاظ على الاتفاق النووي وخفض التوتر، شرط أن تدين السلوك العدواني لإسرائيل. نحن نرحب بدور إيجابي للترويكا الأوروبية في إحياء الاتفاق النووي، بشرط أن تبتعد عن الإجراءات الاستفزازية وغير البناءة، وعلى رأسها التهديد بـ«آلية الزناد»».

اليوم، وفي ظل هدنة هشة في الشرق الأوسط، لا تجد أوروبا نفسها فقط أمام مسؤولياتها الدبلوماسية التقليدية، بل هي غارقة في لعبة جديدة؛ حيث أصبحت آلية الزناد معادلاً سياسياً لقوة الضغط العسكري والعقوبات التي تفرضها واشنطن وتل أبيب. أوروبا التي كانت في السابق تضع حدود مطالبها في تقليص البرنامج النووي الإيراني، وقدّمت نفسها كمدافع عن الاتفاق النووي وحامل لمبادرات مثل «إنستكس»، اليوم تُظهر تحوّلاً يتماشى مع مسار المواجهة. هذا التحوّل لا يتناقض فقط مع ادعاء الاستقلال السياسي الأوروبي، بل يجعل من البيانات المتضاربة والمواقف المزدوجة ورقة بيد ترامب، تُستخدم لدفع المنطقة نحو مزيد من التعليق والتصعيد.

وفي خضم هذه اللعبة المعقدة، تواجه الدبلوماسية الأوروبية اختباراً غير مسبوق: هل تريد أوروبا أن تستخدم قوتها كوسيلة لصنع السلام، أم أنها ستسقط في فخ سياسات لا تعكس سوى منطق القوة والضغط؟ الأيام القادمة ستكشف القرار الذي ستتخذه أوروبا.

بقلم: أميد محسني 

رأيك